أنا لم أفقد ذاكرتي و لكن.. ذاكرتي هي التي فقدتني


هل السؤال الحقيقي هو: من أنا؟ وماذا يعني هذا السؤال على أي حال؟ حين تقرع الباب أي باب على الإطلاق يرد صوت مألوف أو مجهول كان: من أنت؟ فترد قائلا: "هذا أنا فلان..." إذا كأي إنسان يتمتع بالغريزة الأولية سيعرف عن نفسه باسمه. أي واحد منا يتمتع بأخصية التسمية وحتى إن مت رضيعاً تكون التسمية واجباً، إن عشت منبوذاً أو مت معروفاً لا يهم، بالنهاية اسمك هو حقك المكتسب عند الولادة، فأنت لم تعمل جاهداً، أو كنت مختلفاً، أو حتى مميزاً حين حملت اسمك، فكيف تُعرِف بنفسك بشيء اكتسبته قبل أن تعرِفَ نفسك!!

وأنا أعرف اسمي جيداً، فقد كانت أول كلمة تعلمت أن أكتبها بعد أن حرموني من إبداعي! فقد كانت أشكال الحروف تستهويني، تلك الأشكال التي كانت محفورة على حجارة ألعب بها، وأغير اسمها كما يحلو لي أو تبعاً لخيالي، كنت أركض لأمي أحياناً وأريها شكلي المفضل، وأقول: "هادي عصاي..." وترد أمي: "لأ هادي الف..." وبالعرض البطيئ والمتكرر تقول: "اه ه ه ه، اه ه ه ه..." فأركض بعيداً عنها لأني كنت أخاف أن تتألم أكثر من ذلك!! فللأطفال منطقٌ خاص لا يشبه أي منطق، على أي حال حاولت أن أفهم الرابط العجيب بين شكلي المفضل و صوت أمي المتكرر، إلى أن قلت لنفسي لابد أن أمي تتذكر عصا جدي كلما رأت هذا الشكل ليدفعها وتقول: اه ه ه ه... قد حاولت أمي جاهدةً أن تعلمني شيئاً ولم تتدرك حينها أنها سلبتني جزء من ذاتي حين غيرت اسم عصاتي، التي لطالما كانت أداة إلهامي وسبب أحلامي، بالساحرة البيضاء التي تسحرني بعصاتها كل ليلة لأماكن مختلفة،  والملك الصامت الذي يؤشر بعصاه سامحاً لي أن أركض ببساتينه،  والعصا التي كنت أعتبرها جائزتي حين أنتهي من أكل (البوظة) وأخبئها عن إخوتي لسبب ما. بقيت أمي تقول هذه الف.. الف، فلم أتمرد، ولم تعد تعني لي الألف إلا ألفٍ.. بتلك اللحظة بتحديد أستطيع أن أقول بصدق، إني قد بدأت سلسلة التنازلات لتسميات والإعتبارات.

لابد أن الكثير منا فقد الكثير من ذاته, منا من تنازل قليلا" و منا من ضحى كثيرا" لأجل الصمود في عالم التسميات. و لكنا إن نظرنا عن كثب لوجدنا أن التسميات و إن اختلفت, لا تدل إلا على القشور. فمثلا" : شهادتك الجامعية... ربما لم تختر مجالك, أو أردت أن تغيره... أو ربما و ربما... لا يهم لطالما أنك تحقق رؤية المجتمع لخارجك, و رغبتك الكامنة لا تعني أحدا" فقد تجلب العار, فكيف ابن طبيب لا يكون طبيب!! و ربما حصلت على شهادتك متسلقا" أكتاف الاخرين, أو اخرين تسلقوا أكتافك, لا يهم ما الذي خسرته و لا ان كسبت شيء. الأهم أن تكبت ذاتك بإحكام و تمضي ربع عمرك حينها و أكثر لألا تسمى بالفاشل. فمن وجهة نظر عالم التسميات: الفاشل هو الذي لم يخض التجربة أو لم يكملها. إن لم تكسب شيء فمجرد أنك خضت التجربة لنهايتها فأنت ناجح, و لديك القشور لتأكد  ذلك.

و من وجهة نظري أنا: هو أن تخوض التجربة أي تجربة على الإطلاق, ليس المهم أن تصل إلى نهايتها (بل احيانا" يكون من ذكاء أن تنسحب), بل تفشل حين لا تدرك إلا مخاسرك منها, متغاضيا" عما كسبته فعلا".

قرأت جملة تقول ( إن كان كل الناس يفكرون كبعضهم, فبتأكيد أن بعضهم لا يفكرون ), وأظنني من بعضهم.
أنا كالكثير منا فقدت الكثير, فكنت ألقي كل أجزائي المختلفة عن الطبيعة البشرية عن كتفي, حتى أني ألقيت كتفي فما عاد هناك ما ألقيه!! لم أدرك حينها أن من الطبيعة أن يختلف البشر. فقايضت التفرد (و برواية غيري التمرد ) لأتأقلم مع غيري فلابد أن غيري يستطيع أن يجب سؤالي: من أنا؟ و لكن الأغلب لم يعرّفني إلا بالقشور. فإذا" أنا لا أعرف نفسي و لا غيري يعرفني!!!


كيف لي أن أصلح ذاتي أو ما تبقى منها على الأقل؟ فأنا لا أذكر بأي مرحلة أصبحت عبئا" على نفسي, و لا أذكر بأي محطة تركت خلفي تفردي و رؤيتي المختلفة حتى لأتفه الأشياء. كيف لي أن أعود أدراجي بطريق لا أذكره! ليس لأني فقدت الذاكرة و لكني ببساطة لم أرسمه, و كيف أذكر اللحظة التي فصلتني عني!! و هي نقطة اللا عودة, فأنا لم أفقد ذاكرتي على ما أذكر. إن أردت أن ارجع كم كنت يوما" يجب أن أعرف أين كنت أصلا", إذا" السؤال هو : أين أنا؟ و إن استطعت أن أعرف أين أنا و أحدد دوما" مكاني فبالمطلق لاستطعت أن أعرف من أنا. حينها حتى لو عبرت نقطة اللا عودة فالعودة موجودة, و لكنت إحتفظت بشيء من ذاتي!.

لكني لا أذكر متى مررت بتلك النقطة و أين كنت , ولا حتى أين أكون, فأنا لم أفقد ذاكرتي و لكن يبدو أن ذاكرتي 

هي التي فقدتني..






Comments

Popular posts from this blog

استوديو رقم ٧

الحاضرة في ذاكرتك أبداً

بُنَيّ